الطيب شوران
إذا ما تحدثنا عن المرأة في أغنية الروايس الأمازيغية، فإنه لابد لنا من الحديث أولا عن مكانة المرأة في المجتمع المغربي القديم، فالمرأة المغربية كانت ولا تزال تحظى بمكانة رفيعة وتقدير كبير، ذلك أن المجتمع المغربي كان من المجتمعات الأميسية كما تذكر بعض المصادر التاريخية، وكذلك ما نستشفه من خلال مجموعة من القرائن التاريخية واللغوية؛ حيث كانت المرأة المغربية في شمال إفريقيا تتبوأ مكانة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها متميزة، وكانت تمارس السياسة وتحظى بالسلطة، بل وصل الأمر إلى حد اتخاذ الأمازيغ من المرأة آلهة يتقربون إليها ويتوسلون بها لجلب منفعة أو لدفع مضرة، وتعتبر الإلهة “ثانِّيتْ” إلهة الخصوبة أبرز مثال في هذا الباب، فقد عبدها الأمازيغ قديما في فترة ما قبل التاريخ، ولكنها ما تزال حاضرة في اللاوعي الجمعي للمغاربة لكن بصورة مختلفة تماما لما كان عليه الأمر عند القدماء، فإن حضرت عندهم كرمز للإلوهية يتقربون إليها ويتوسلون ويقسمون بها لتأكيد حصول فعل معين ووقوعه، فإن المغاربة أمازيغا كانوا أو عربا يتوسلون بهذا القسم القديم بنفس الغرض بيد أن التصور مختلف، حيث الأجداد استعملوه قصدا ووعيا، في حين يوظفه الأحفاد عن غير وعي وعن غير قصد وبشكل عفوي بعيد كل البعد عن التصور القديم، ولا يقصدون به الإعتقاد الوثني أو شيء من هذا القبيل، ولكن الأمازيغي مثلا عندما يريد أن يؤكد لك حصول فعل معين يقول لك مثلا كالتالي: يُوشْكَدْ نِيتْ، أو إِفْتَ نِيتْ، أي بمعنى جاء حقا، أو ذهب حقا؛ وكذلك المغاربة الناطقين بالدارجة التي تعتبر نتيجة حتمية للتفاعل التاريخي بين اللغة الأمازيغة واللغة العربية، إذ يقول لك مثلا وبنفس المعنى تواليا: جَايْ نِيتْ، أو مْشَا نِيتْ. هذا على المستوى الأسطوري، أما على المستوى الواقعي فقد وصلت المرأة الأمازيغية إلى مرتبة الملكة التي تسوس أمور الدولة وتسير دوالب حكمها، ومن أشهر ملكات الأمازيغ عبر التاريخ؛ الملكة “ديهيا” أو “تيهيا” (585 م-712م)، التي حكمت شمال إفريقيا ما بين (680–712) ميلادي، وتذكر المصادر التاريخية أنها واجهت الروم والبزنطيين، كما واجهت ببسالة الجيوش الأموية في بداية الغزوات الإسلامية، يقول بن خلدون: “ديهيا فارسة الأمازيغ التي لم يأت بمثلها زمان كانت تركب حصانا وتسعى بين القوم من الأوراس إلى طرابلس تحمل السلاح لتدافع عن أرض أجدادها”[1].
أما على مستوى الجذر اللغوي فكلمة “تَمْغَارتْ”، والتي يقابلها في العربية كلمة “المرأة”، تعني صاحبة السلطة وصاحبة القرار والتي توكل لها أمور البيت وتدبير شؤونه، في غالب الأحيان، وأمور القبيلة أو الدولة في أحيان أخرى كنموذج ديهيا، هذا المعنى نستشفه من الاسم الذكوري “أَمْغَارْ”؛ إذ لا تقال للرجل إلا إذا كان زعيم القبيلة وشيخها والذي يسوس أمورها ويحتكم إليه الناس في منازعاتهم وخصوماتهم…
ومن القرائن اللغوية كذلك لفظة “لَالَّة”، المشتقة من الاسم “تِلْلِّي”، الذي يقابله في العربية كلمة “الحرية”، أي أن لفظة لالة تعني الحرة، المستقلة من تبعية الرجل ومن سلطته، ويتجلى هذا المعطى في فنون أسايس مثلا، فقد كانت المرأة بقدراتها ومهاراتها إلى جانب الرجل متحررة إلى حد كبير، فتشارك الرجل في كل السكنات والحركات التي تواكب وتقام داخل هذا الفضاء.
وفي أغنية الروايس الأمازيغية تحظى المرأة بدور الريادة على مستوى الحضور، فقد ظل الرايس يتغنى بالمرأة ويصفها ويتعزل بجمالها. وتحضر في عمومها في صورتين اثنتين، أولاها وهي الغالب نموذج المرأة/الحبيبة، والثانية ولا تقل حضورا وهي نموذح المرأة/الأم. وللتقرب من هذا الموضوع سنعتمد نموذجا فذا في أغنية الروايس الأمازيغية، الرايس الحاج بلعيد؛ إذ يعتبر الرايس الحاج بلعيد رائدا للأغنية الأمازيغية بدون منازع فهو شاعر مبدع كبير وموسيقي رائع وهو إلى جانب ذلك أحد الرموز التاريخية في المشهد الثقافي السوسي والمغربي على العموم. الحاج بلعيد من مواليد سنة 1873 في”أنو نعدي” وتعني بئر عدي في ناحية تزنيت، نشأ وترعرع في تهالة في منطقة تارودانت حيث يوجد أكبر تمركز لليهود البربر فاحتك بأكبر المغنيين و الشعراء اليهود السوسيين وعلى أيديهم تعلم الموسيقى.
توفي الرايس الحاج بلعيد في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، بعد عطاء زاخر، وإمتاع مستمر لأزيد من نصف قرن. ما تزال أشعار وأغاني الرايس الحاج بلعيد خالدة إلى اليوم يتغنى بها الأمازيغ بمختلف أعمارهم، شاهدة على روعة وعبقرية مبدعها الأول، وقد قامت مجموعة من الفرق الغنائية المعاصرة بإعادة غناء ميراث الحاج بلعيد بلمسة عصرية وآلات موسقية حديثة دون المساس من روعة اللحن الأصلي أو تغيير للكلمات التي ألفها الحاج بلعيد عبقري ومعجزة الشعر السوسي
1- صورة المرأة الحبيبة
اهتم الحاج بلعيد ومعه أغنية الروايس بالغزل “tayri” شأنها شأن كل الشعريات العالمية أيما اهتمام، بل يمكن القول إن حضور موضوع الغزل في أغنية الروايس لا يعادله حضور أي موضوع آخر، فقد نال التغني بالمرأة والتغزل بمحاسنها ووصف جمالها حصة الأسد من اهتمامات الرايس، وقد تفاوت حضور المرأة في أعمال الحاج بلعيد بين التصريح بالحب، والتوسل بالتورية والترميز والإيحاء؛ “نظرا لما يحمله هذا الموضوع من معاني الحشمة وإشكالية البوح بمشاعر الحب علانية نظرا لانتشار فكر الممنوعات والمحرمات التي تشكل حاجزا أمام التعبير الصريح فيلتجئ الشاعر إلى التلميح، كما يشكل الوازع الديني أحد أهم الأسباب التي تدفع الشاعر إلى اللجوء للرمزية”[2]؛ فإذا بحثنا في التعبيرات المباشرة الصريحة التي يصف بها الحاج بلعيد المرأة/الحبيبة نجد وصف “الزين”، أي الجميلة، وهو كناية عن جمال المحبوبة فيختصر الرايس اسم محبوبته في هذه اللفظة، يقول الحاج بلعيد: “مناو الحقوق أس تنيت إحتاجا الزين”، إذ يسأل الرفيق عن شروط وحقوق الحبيبة عند الاقتران بها. فضلا عن هذا الوصف نجد الحاج بلعيد يستعمل عبارة أخرى هي” وينو” وهي لفظة يستعملها الرايس بمعنى الحبيب أو الزوج الذي يبقى خالصا للرايس دون أن يشاركه فيه أحد، كما نجد أن المرأة الحبيبة تحضر عند الرايس الحاج بلعيد بصفتها طبيبا بارعا يقدر وحده على معالجة وشفاء ما بالرايس من سقم العشق وحرقة الشوق، لكن ما لم يحل الحسود والواشي بينه وبين الحبيبة/الطبيب، يقول:
طلبت من الطبيب الدواء فلم يجبني
فعلمت أن الحاسد والواشي أعابوني
هذا على مستوى التصريح المبارشر بالحب، أما في الغالب فإن الرايس يلجأ كما ذكرت أنفا إلى استعمال الرموز والإيحاءات المستقاة من حقل الطبيعة أو الحلي…، ويستخدم عبارات من كل حقل حسب جمال المرأة أو طبيعة علاقته بها؛ فنجد أتبير أومليل/ الحمام البيضاء رمزا للمحبوبة والملاذ الذي يجد فيه الرايس راحته النفسية وسكينته العاطفية، كما وظف الشاعر وصفي ”أوداد” “الوعل” و “aznkd” “الغزال” كرمز للمعشوقة الشاردة المستعصية الهاربة من قيود الحب إلى “أجاريف؛ أي الصخر العالي والممتنع، كناية على الفوارق الاجتماعية والمادية التي تفصل الرايس عن محبوبته.
طبيعي أن تحضر المرأة في صورة جميلة تتغنى بجمالها وحسنها وتلمح إلى رغبة الرايس في التقرب إليها والاقتران بها، ذلك أن الرايس يتناول موضوع المرأة في هذا المقام من خلال غرض الغزل، فنجدها تحضر إلى جانب ما ذكرناه في صورة “ayyis” و”ajdaà” بمعنى وصفها بالفرس والخيل لحسن قدها واعتدال قامتها، وكلها رموز استقاها الشاعر من الطبيعة، وبالتحديد من كائنات حية من حيوانات وطيور عرفت بالجمال والدلال والروعة.
2- صورة المرأة الأم من خلال أغنية “إِمِّي حْنَّا”
تمتح صورة المرأة/الأم عند الرايس الحاج بلعيد من روافد مختلفة ومتنوعة، خاصة من الدين الإسلامي، الذي أرخى بظلاله على المواضيع التي تناولها الروايس في مقطوعاتهم، كما تنهل أيضا من الثقافة الأمازيغية (أمثال وحكم…)، وتعتبر الأم عند الحاج بلعيد ذلك المعبر الآمن لمصائب الحياة وأحد أهم الممرات المؤدية إلى الراحة الأبدية والنعيم الخالد في الجنة، فيتوسل أمه كي تمنحه رضاها ليكون له كالمنبع الذي يمتح منه مدى الحياة، ويكون كذلك سببا لدخوله الجنة، وهنا يظهر تأثر الحاج بالعيد بالدعوة الإسلامية. كما تحضر المرأة/ الأم كركيزة أساس تستند عليها حياة الرايس وتعتمد عليها، والصدر الذي يسند له رأسه واليد التي تباركه وتحرسه، كما تحضر الأم عنده كوصية من الله عز وجل للإنسان أوصى بها إحسانا في كتابه العزيز، يقول الله عز وجل:” وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا”[3]، يقول الرايس في توظيف مباشر للنص الديني في هذه الأغنية: (أنت من وصى عليها الله في القرآن).
هذا ويؤكد الشاعر هذه الصورة الذهبية للأم حين يعتبرها الكنز الكبير الذي لا يفنى، والتي لا تقدر بثمن، فلو أعطى الرايس حياته لوالدته ما أدى ولم الجزء اليسير من حق والدته عليه، يقول:
أنت ركيزة حياتي
أنت من وصى به الله في القرآن
أنت بمثابة الكنز الكبير
وبالنسية للرايس فالأم رمز للتضحية، إذ تضحي بصحتها وتفني جمالها من أجل تربية ابنائها، ورمزا للصبر والتجلد وقوة التحمل، تحملها مشقة حملها له في أحشائها تسعة أشهر بأيامها ولياليها، وكذلك منبع الحب الذي يحتاجه الرايس لينير له الدروب ويجتاز به الصعاب.
إن هذه الصورة الجميلة والمؤثرة التي تتخذها المرأة/الأم في هذه الأغنية للحاج بلعيد، مردها إلى طبيعة العلاقة الخاصة التي تربط الرايس بأمه، خاصة وهي التي تكفلت بتربيته ونشأته منذ نعومة أظافره بعد وفاة والده في سن مبكرة، فأخذت أمه بزمام الأمور وحملت على عاتقها تربيته وإخوته وضمان لقمة العيش لهم، وما إن كبر الطفل الحاج بلعيد الذي ترك بصمة ذهبية في مسار الأغنية الأمازيغية والمغربية، رغم الإقصاء والتهميش الممنهج من طرف المؤسسات الثقافية والتربوية المغربية ضد كل ما هو شعبي وغارق في الوطنية والإنتماء إلى المغرب من فروة رأسه إلى أخمص قدميه، حتى أرسلته ليرعى أجيرا عند بعض الأهالي في سوس، وخلال تلك المدة تعلم العزف واللحن والنظم، وخلد أمه في هذه القصيدة.
مما سبق نخلص إلى أن المرأة تحضر في فن الروايس عموما وعند الحاج بلعيد خصوصا، في ارتباطها بالتصور المغربي للمرأة ومكانتها داخل المجتمع وفي حياة الرجل، فتتخذ صورة الحبيبة التي تجلب السعادة إلى حياة الرايس وتحقق تكامله وتعالج أسقامه العاطفية، وتحضر أيضا بصفتها الأم التي تضحي بجمالها وصحتها ونومها وراحتها من أجل تربية أولادها، وتستنفد حياتها من أجل حياة أبنائها.
كما نخلص أيضا إلى القيمة الفنية التي يكتسيها فن الروايس في الثقافة الشعبية المغربية، بصفته موروثا ثقافيا غنيا بالمعاني الإنسانية الجميلة والصور الإبداعية الرائعة، وليس مجرد فولكلور شعبي نقدمة واجهة لجلب السياح وصناعة الفرجة لهم كما تريد بعض الجهات تصوره واختزاله.
[1] إبن خلدون كتاب العبر الجزء السابع ص 11. نقلا عن: http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AF%D9%8A%D9%87%D9%8A%D8%A7
[2] اهتمام الحاج بلعيد بالمرأة والحب، ابراهيم أكنفار. جريدة الصباح. http://www.assabah.press.ma/index.php?option=com_content&view=article&id=13211:—-
[3] سورة الأحقاف، الآية 46.