الحسن زهور
مقدمة:
لا نعرف عن المسرح الأمازيغي الشيء الكثير باستثناء ما أنتجه الكتاب و المبدعون بما فيهم مخرجو النصوص المسرحية في نهاية النصف الثاني من القرن الماضي أي القرن العشرين، و مرد ذلك يعود إلى قلة الدراسات عن الأدب الأمازيغي الشفوي منه و المكتوب. فكل ما نعرفه عن المسرح في شمال إفريقيا هو هذه المسارح الرومانية التي تزخر بها شمال بلاد تامازغا بما فيها المسارح التي شيدها الملوك الأمازيغ ( يوبا الثاني…..) ، و إذا رجعنا إلى النصوص المسرحية التي وصلتنا و التي كتبها كتاب المسرح الأمازيغ مثل تروميتوس أفر(1) فسنجدها مكتوبة باللغة اللاثينية اسوة بباقي الأجناس الأخرى التي كتبت بهذه اللغة كرواية ” الحمار الذهبي ” لأفولاي ” أبوليوس”.
مما يعني أن التأليف المسرحي باللغة الأمازيغية لم يصل إلينا منه شيء إلى الآن على حد علمي، و لن يدخل التأليف المسرحي بهذه اللغة ميدان الأدب إلا مع انتقال الأدب الأمازيغي من الشفوية إلى الكتابة، و لكن هذا لا يعني افتقار الأدب الأمازيغي إلى هذا النوع الفني و الأدبي، إذ أن المتأمل و الدارس لهذا الأدب سيلاحظ وجود أشكال مسرحية تقترب من المفهوم الأرسطي للمسرح، تشترك معه في جوانب فرجوية و في عناصر تعتبر من العناصر الأساسية لقيام مسرح بمفهومه الأرسطي الذي كان سائدا إلى بداية القرن العشرين، كضرورة وجود نص مسرحي و ممثلين و جمهور و خشبة مسرحي…
فاحتفال “إمعشارن ” مثلا و الذي يقام كل سنة في بعض المدن و المناطق الأمازيغية بسوس في عاشوراء ، يشترك مع المسرح الأرسطي في عدة أوجه، كوجود ممثلين و أقنعة و جمهور و خشبة مسرحية هو ” أسايس ” أو ساحة الاحتفال، كما أن احتفال “بيلماون “(2) بدوره لا يخلو من بعض هذه العناصر المسرحية، و لعل المسرحيات البسيطة التي تقام في “الحلقة ” و التي يجسدها ” باقشيش” أو “لمسيح ” بتسكين الحروف أي الفكاهي أقرب كثيرا إلى المسرح الأرسطي بتوفرها على أغلب العناصر المكونة للمسرح الأرسطي، و إن كانت في غالب الأحوال تعتمد على ممثلين أو ثلاثة و في الغالب على ممثل وحيد، و هذا الأخير يدخل ضمن نوع جديد من المسرح هو المسرح التجريبي الذي يعتمد فيه النص المسرحي على ممثل وحيد.
أما المسرح الأمازيغي المكتوب فقد ارتبط بحركة التدوين التي شهدها الأدب الأمازيغي في النصف الثاني من القرن الماضي و التي انطلقت مع الحركة الثقافية الأمازيغية، و سيشهد التأليف المسرحي تأرجحا في حركته الإبداعية و التجسيدية من حيث القوة و الضعف، إذ سيعرف التأليف المسرحي في الريف مثلا على مستوى التشخيص و انجاز العروض المسرحية نشاطا ملحوظا ” المسرح الأمازيغي بالريف هو أكثر الفنون نجاحا وتحقيقا للإنجازات، فإن كل ما أنجزه وراكمه بقي مرتبطا بالشق الفني، أي بشق العروض والتشخيص الركحي ” (2) كنصوص أحمد زهيد وسعيد أبرنوص و فؤاد أزروال..، و عروض الفرق المسرحية كفرقة «أبوليوس» بمدينة الناظور،لكن يبقى التأليف المنشور في كتب مسرحية خاصة قليلا جدا مقارنة مع النصوص المجسدة على خشبات المسرح، منها كتاب/ مسرحية ” واف” لمحمد بوزكو و كتب “تاووري توف” و”يما” و ” أنازور د ميدن” للدكتور فؤاد أزروال الذي ألف و أخرج الكثير من العروض المسرحية الأمازيغية، و يمكن اعتباره رائد المسرح الأمازيغي بالمغرب.
و نفس الشيء بسوس ورغم بعض التجارب المسرحية ” تعد الكتابة المسرحية إلى جانب المقالة الحلقة الأضعف في الكتابة الأدبية الأمازيغية “(3)، فرغم أن أول مسرحية مكتوبة كانت سنة 1983 بعنوان ” ؤساسن صميدنين ” للصافي مومن فإن الكتابة المسرحية لم تجد اقبالا من الكتاب مقارنة مع الشعر و القصة و الرواية، إذ لم تتجاوز المؤلفات المسرحية المنشورة عدد أصابع اليد ، منها مثلا ما نشرنه رابطة تيرا للكتاب بالامازيغية ككتاب ” تاواركيت ن أوفـﯖارﯖان” ; لعياد ألحيان سنة 2011 و ” تاوتمت أد ئردلن تامدولت ” للكاتب عمر ابغاج سنة 2013، إضافة الى ما نشره بعض الكتاب ك ” ؤر د أوال، ؤر د أكال” لعبد الله طايرا سنة 2012، و ” أفامارك” لمحمد باسطام سنة 2014..
و يبقى التجسيد المسرحي للعروض المسرحية بدوره لا يرقى الى المستوى المطلوب، و هنا تبرز بعض الفرق كفرقة ” تيفاوين ” المسرحية و فرقة ” تامونت”، و فرقة “مسرح ئزوران” و فرقة ” فضاء تافوكت للابداع ” بالبيضاء و فرقة ” محترف كوميديانا” بانزكان، و الفرقة المسرحية لتاماينوت فرع انزكان التي جسدت رواية ” تاواركيت د ئميك ” للروائي محمد اكوناض، و هي إحدى المحاولات القليلة التي ربطت الرواية الأمازيغية بالمسرح، و فرقة «تاكفاريناس» بمدينة الدشيرة، وفرقة «ويمرز» للمسرح بمدينة تزنيت، أما في مجال الترجمة من المسرح العالمي فتبرز هنا مسرحية ” روميو و جولييت” لشكسبير و التي ترجمها الاستاذ احمد الدغيرني سنة 1995 ، ولا ننسى تجسيد وعرض مسرحية ” Mam nkk ar nttqql s gudu ” لصمويل بيكيت التي ترجمها الشاعر محمد واكرار.
أصدر الاستاذ محمد بسطام هذه المسرحية في كتاب في شهر ابريل 2014 و هو أول إصدار له ، ليغني بهذا العمل الإبداعي المكتبة الأمازيغية التي تفتقد إلى الكتابات المسرحية، والكتاب يتكون من 106 من الصفحات من الحجم المتوسط و في طبعة انيقة، و ينقسم الى جزأين : الجزء الأول منه مكتوب بالحرف اللاثيني ، و الجزء الآخر أعيدت كتابته بحرف تيفيناغ،
جاء عنوان الكتاب / المسرحية “Mafamarg ” في صيغة مركبة من كلمتين أي على طريقة النحت التي تمتاز بها اللغة الأمازيغية مثل بقية اللغات الأوروبية ذات الأرومة الآرية ; الكلمة الاولى Maf و هي اسم فاعل و تعني الواجد أي الذي وجد ما يبحث عنه و تعني أيضا المكتشف، و الكلمة الثانية Amarg بمعنى الشعر و تعني كذلك الغناء ) و على شاكلتها كلمة Mafaman بمعنى المتخصص في اكتشاف الماء).
و تتوزع المسرحية على ستة فصول ، هي على التوالي:
Tifawt أي النور — Asigglأي البحث — Janti أي جانتي الشاعر— Iziilid أي العاصفة —- Tariأي الحب— Tmghra- أيالاحتفال.
مكان أحداث المسرحية:
هو خشبة المسرح و أما جمهور مفترض ، مما يعني أن المسرحية كتبت للعرض و للتجسيد المسرحي فوق المسرح ، و هذا ما جعل الكاتب يزاوج بين مهمتين : المهمة الإبداعية المتمثلة في خلق نص مسرحي بشخوصه و أحداثه بما تتضمن من صراع درامي ، و في نفس الوقت يساهم في الإخراج المسرحي عبر وصف حركات شخوصه فوق الخشبة، و نوع الإضاءة وحركتها من حيث القوة و البهت، و من حيث التركيز و الشمولية، و من حيث علاقة بعض الشخصيات بالجمهور المتفرج، مما يدخل المسرحية ضمن ما سمي بالمسرح التجريبي الذي تأثر بالمسرح البريختي بخروجه عن النمط التقليدي للمسرح الأرسطي.
شخصيات المسرحية/ النص المسرحي:
ترتبط شخصيات النص يالتيمات و القضايا التي يطرحها النص، و بالتالي تتحدد مواقفها و علاقاتها فيما بينها انطلاقا من المواقف التي تتبناها
من خلال مواقفها المطروحة و انسجاما مع الغايات و الأهداف التي تروم تحقيقها.
و يمكن إجمال القضايا التي يطرحها النص المسرحي، و التي يروم إيصالها للقارئ أو للجمهور المفترض عبر مواقف و حوارات الشخصيات المنسجمة أحيانا و المتعارضة أحيانا أخرى، في قضية محورية هي محاولة تغيير الواقع.
السعي نحو تغيير الواقع يرتبط في النص المسرحي بتنوع مواقف الشخصيات و منطلقاتها و درجة وعيها و الأهداف التي تتغياها و المطالب التي ترفعها، و يمكن إجمال هذه المواقف في اربعة:
– البحث عن النور ( كرمز ) لإضاءة الواقع المظلم و هو موقف شخصية Igidr أي النسر مع ما يحمل هذا الاسم من دلالة السمو و العلو.
– البحث عن نقطة الانطلاق ( رأس الخيط) للسير نحو تغيير الواقع ، و هذا موقف Sifaw، كشخصية تبدأ في الفصل الأول لتغيب في بقية الفصول الخمسة الأخرى.
– البحث لتفعيل الشعر كوعاء أساسي حافظ على الهوية، و كوسيلة للتغيير، و الشعر في النص يتجسد كذاكرة الشعب و الحامل لهويته و حافظها ، و تحمل هذا الموقف شخصية Ddahmad و Janti ، و أسماء هذه الشخصية أسماء وازنة و تاريخية في المجال الشعري الامازيغي.
– البحث عن المال و السعي لامتلاكه بمختلف السبل و المال رمز للسلطة ، و يمثل هذا الموقف شخصية Azayz أي الاخطبوط، بما يرمز اليه من مدلول سلبي، و هذه شخصية لها ارتباط بالسلطة في النص المسرحي.
تلتقي المواقف الثلاثة الأولى حول البحث عن سبل التغيير، أي تغيير واقع يطمس هوية البلد الثقافية و اللغوية، و إن لم يشر إليها النص المسرحي صراحة، لكن تشير اليه بعض الرموز الدلالية الي تصاحب بعض الشخصيات أو التي ترد في الحوارات ، مثل ظهور العلم الأمازيغي في بداية الفصل الأول من المسرحية ، أو ورود حروف تيفيناغ في الفصل الثالث في رؤية مستقبلية.
إن تعدد السبل و المواقف الداعية الى تغيير الواقع من خلال تعدد الشخصيات الحاملة لهذه المواقف لن يبقى رهين هذا التعدد إذ سرعان ما يميل ابتداء من الفصل الثالث إلى الفصل السادس و الأخير لصالح الموقف الذي يتبنى الشعر كوسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية و اللغوية للبلد ، و كوسيلة لتغيير هذا الواقع الذي تروم باقي الشخصيات تغييره، و هو الموقف الذي تتبناه شخصيات : أهداوي ثم مافامان ثم جانتي ثم دالحوس و هذه الشخصيات هي تنوع لشخصية واحدة مناضلة تحمل هم الكلمة و الشعر.
إن تركيز المسرحية على الشعر كوسيلة للتغيير هو تأكيد على دور الحركة الثقافية في تغيير الواقع المغربي و في استرجاع الهوية المغربية اللغوية و الثقافية، و هو موقف تنتهي به المسرحية من خلال الزواج الذي سيربط الشاعر دالحوس و تيليلي بما يحمل هذا الاسم من معان الحرية، أو من خلال ما انتهت به المسرحية من خطاب مباشر تتوجه به شخصية “ماماس” الى الجمهور تطلب منهم ضرورة الحفاظ على الغناء و الشعر الأمازيغيين باعتبارهما الحاملين لهويتهم و لتميزهم و المعبرين عن وجودهم الهوياتي و الثقافي.
في مقابل هذا الموقف الداعي الى التغيير يبرز من خلال النص موقف آخر يحاول تعطيل حركته، و يحاول كبح جماح هذا التغيير و تمثله ثلاث شخصيات هي Azayz ; bumzzugh , inxarn و هي أسماء لها دلالات رمزية سلبية مرتبطة بالمواقف السلبية التي تلازم كل سلطة استبدادية. و ستحاول هذه الشخصيات المناوئة بداية الأمر الوقوف أمام التيار الداعي للتغيير لكنها سترضخ أمام قوته لتستكين في انتظار لحظة مواتية للظهور و لعرقلة حركة التغيير.
رمزية الشخصيات:
تحمل كل شخصية من شخصيات النص اسما يحيل الى دلالة رمزية لا تخفى على القارئ أو المتفرج تمتح تارة من الواقع الثقافي الأمازيغي ، و تارة أخرى من التاريخ القريب للرموز الثقافية خصوصا الشعرية و الفنية :
– ائكيدر ( IGIDR) بمعنى النسر، و يحيل هذا الاسم في الثقافة الامازيغية الى السمو و العلو، كما يحيل إلى الأسطورة الأمازيغية المشهورة ” حمو ؤنامير” في بحثه عن وسيلة للصعود الى السماء للالتقاء بحبيبته فلم يجد الا النسر كمساعد و كوسيلة للصعود.
– سيفاو( SIFAW) بمعني المنير، و يرتبط في النص المسرحي بضوء القمرالمبدد للظلمة.
– أزايز ( AZAYZ) أي الاخطبوط ، ويحمل دلالة سلبية تدل عليه احالاته الكثيرة التي لا تخرج عن دائرة التسلط و الجشع …
– اهداوي (AHDDAWI) ، أهداوي في الذاكرة الشعبية المغربية يحيل الى السياحة الروحية و الى الحكمة و استكناه المستقبل، و لعل سيدي عبد الرحمان المجوب ابرز من يمثل هذا التصور.
– مافامان ( MAFAMAN ) ، و يحيل هذا الاسم في الثقافة الامازيغية الى ذلك التلاحم بين الانسان و الطبيعة، و هي علاقة روحية و مادية في نفس الوقت، تصل بالانسان الى الحد الذي يستطيع فيه رؤية الماء في باطن الارض، و هذه الشخصية لها علاقة بالكشف عن مراكز الماء في باطن الارض.
– جانتي ( JANTI ) ، ورود هذه الشخصية في المسرحية تحيل الى الشاعر الكبير الذي قاوم الاستعمار بالكلمة الشعرية، فكان شعره سلاحا أخطر على الاستعمار من البنادق.
– تيليلا ( TILILA ) شخصية نسوية يدل اسمها على النجدة ، في نهاية المسرحية سيعقد قرانها على الشاعر داحماد.
– ماماس ( MAMMAS ) شخصية نسوية تحيل الى الذاكرة الثقافية الامازيغية، شخصية مناضلة ستظهر في الفصل الاخير من المسرحية.
المستوى الفني للمسرحية:
لا تعتمد مسرحية ” Mafamarg” على الحبكة القصصية و توالي الفصول و الأحداث و هي أهم مرتكزات المسرح الأرسطي(عرض، عقدة، حل)، كما أن الزمن فيها لا يسير على الوثيرة المعروفة كخط مستقيم ، إذ يتداخل فيه الماضي و الحاضر بصورة ضمنية و دلالية لا تشير اليها المسرحية مباشرة، كما أن الأحداث فيها لا تتخذ منحى تصاعديا على منوال المسرح الارسطي مما يبعدها عن القصصية، إذ الغاية من المسرحة هي إثارة وعي و فكر الجمهور ليتخذ موقفا مما تطرحه شخصيات النص من مواقف فكرية و سياسية، الشيء الذي يدخل المسرحية ضمن المسرح البريختي الذي فتح أفاقا تجريبية للفن المسرحي المعاصر.
الفصول الستة في المسرحية هي لوحات مسرحية ـتداخل فيها الأحداث و الحوارات بين مختلف الشخصيات و اللوحات الفنية والمشاهد الدلالية مما يجعلها منفتحة على الجمهور و تدفعه للتفاعل مع شخصيات المسرحية و ما تطرحه من أفكار و مواقف، كما أن الخشبة في ديكورها لا تشير الى مكان معين و دخول شخصيات المسرحية و خروجها لا يلتزم بالنمط التقليدي للمسرح الأرسطي، كما أن شخصيات النص في حواراتها تتجه أحيانا الى الجمهور لإشراكه في الأحداث أو لإيصال أو إبداء رأي.
و في الختام لا بد أن نشير الى أن مسرحية ” Mafamarg” حاول فيها الكاتب محمد بسطام المزاوجة بين التراث الأمازيغي في توظيفه لفن الفرجة الاحتفالية و لفن الحلقة، و بين تقنيات الفن المسرحي الحديث، هذه المزاوجة بين الاشكال التراثية و المسرح الحديث هي ما يعطي لهذه المسرحية ميزتها في التأصيل أسوة بباقي النصوص المسرحية الأمازيغية التي تسير في هذا الاتجاه التأصيلي .
الهوامش:
1- محمد شفيق ” لمحة عن ثلاثة و ثلاثين قرنا من تاريخ الامازيغيين “. مجلة ” تيفاوت ” عدد 10 (عدد خاص) 1997
2- كرنفال احتفالي يعتمد على الأقنعة الجلدية، يقام كل سنة في سوس عقب عيد الاضحى، و أشهر كرنفال هو الذي يقم بمدينة انزكان.
3- فؤاد أزروال ” فنون الأدب الأمازيغي المكتوب بالريف” ، كتاب ” الادب الامازيغي الحديث” من منشورات رابطة تيرا، سنة 2013، مطبعة دار السلام الرباط.
4- محمد أوسوس ” الكتابة في الأدب الأمازيغي المعاصر بسوس:الحصيلة والأسئلة”، نفس المرجع.