أجواو: ملك “أفرادي” أو الشاعر الحكيم

You are currently viewing أجواو: ملك “أفرادي” أو الشاعر الحكيم

علي الحسن أوعبيشة

إن أعقد مسألة تواجه كل مهتمّ بفن “أفرادي” أو “الأبيات الشعرية المنفردة” في نظري، تتمثّل في كون هذا النمط الشعري ظل شفهيا، ومن هنا الصعوبة، إذ من غير اليسير جدا أن تميّز بين مساهمة هذا الشاعر ومساهمة شاعر آخر، ذلك لأن بيتا شعريا واحدا تجده في غالب الأحيان منسوبا إلى أكثر من شاعر، بل أكثر من ذلك تجده منسوبا إلى رمز من رموز الأغنية الأمازيغية الكلاسيكية بمجرد أنه تغنّى به في إحدى أغانيه، وهذا الأمر ناتج عن كون كل “بيت شعري” عادة ما يبقى مِلكًا مشاعا لكل الناس عكس القصيدة”تمديازت” التي غالبا ما يتم تسجيلها فتُحفظ باسم شخص واحد، فتصير مرجعا يتم الرجوع إليه، أمّا “أفرادي” فبمجرّد ما يلقى هكذا وبتلقائية بارعة، وينتشر بسرعة، ويتم تناقله من شخص إلى آخر، ومن قبيلة إلى أخرى، يصير فريسة للعنعنة ويضيع في معمعة السّند.

(أفرَّادي) مفردٌ جمعه (إفرَّادييْن)، وهي كلمة مشتقّةٌ من لفظ عربي تمّ تمزيغه (أي تم تكييفه مع نحو اللسان الأمازيغي، إذ نجد لفظ (أفردي) في الأمازيغية تستعمل بمعنى(فرد) محيلةً على الدلالة العددية، هذا من حيث اللغة، أما من حيث الدلالة الاصطلاحية فهذا اللفظ يطلق على نمط شعري معروف عند ساكنة الأطلس الكبير الشرقي وجنوب الأطلس المتوسّط المحيطين بسهل ملوية يتم نظمه على شاكلة بيت شعري واحد ويتسم بقدرته على الاختزال وتكثيف المعنى إلى حدّ يمكن القول بأنه يعادل القصيدة في قيمته الجمالية والأدبية، وعادة ما يرتبط بمناسبة معيّنة أو بواقعة محدّدة، ويلقى بذلك بتلقائية وعفوية نادرتين، لذلك فهو وليد اللحظة.

إضافة إلى كل هذا، فهذا النمط الشعري مرتبط بشكل كبير بظاهرة النقائض، لذلك تجد (إفرادييْن) في غالب الأحيان عبارة عن إجابات على (إفرادييْن) آخرين، من هنا يمكن القول بأن هذا النمط الشعري كان ولا يزال أداة للتواصل بين سكان هذه المناطق.
و “لإفرادييْن” اسم آخر هو “إزلان”، إذ كلما أراد أحد ما أن يذكر (أفرادي) معيّن إلا ويبدأ بهذه العبارة « inna bu izli» غير أن هذه التسمية تحيل كثيرا إلى الأبيات الشعرية المغنّاة.

ويعتبر”أحيدوس” الفضاء الطبيعي والخـــصب لإفرّادييْن/إزلان”، ف”إمديازن أو إنشادن” غالبا ما يضعون بعض إبداعاتهم من الأبيـــات الشـــعرية المنـــفردة في خانة المضنون عن غير أهله(أي يحافظون على سرّيتها)، بغيـــة إلقــائها لأوّل مرّة في أحــيدوس، للحفــاظ على “براءة الإبداع” ، أو لنقل السّبق الإبداعي.

من أهم مَن عرف بهذا الفن نجد الشاعر الحكيم حدّو أجواو المعروف بأجواو،وهو من مواليد قرية (ترغيست) بالقرب من (أنفكو)، ترعرع في أحضان عائلة معروفة بنظم الشعر اشتغل بالفلاحة وتربية الماشية، فألهمته الحياة البسيطة وأهّلته ليكون أحد كبار الشعراء بالمنطقة الأكثر عطاءا وغزارة في الإبداع إلى درجة أنه لا يمرّ يوم ما دون أن يتواتر الناس عنه بيتا شعريا(أفرادي) على الأقل، اشتهر كثيرا سنوات الثمانينات والتسعينات كأبرز شاعر ضمن فرقة أحيدوس الممثّلة لقبائل (أيت عْمْر) في احتفالات عيد العرش التي كان تقام ب”ألمو ن لحنَّا” بتونفيت، هذه المساحة الخضراء الخلاّبة التي كانت تستقطب علاوة على “أيت عْمْر” أبرز فرق أحيدوس المعروفة آنذاك مثل: فرقة أيت يحيى وفرقة أيت شعاوعلي وأيت حنيني وإشقيرن… إلى أن توفّي مع بداية الألفية الثالثة وانتقلت عائلته الصغيرة(أرملته وابنته) إلى (تونفيت-المركز).

وإذا قلت أجواو، قلت معه هذا البيت الشعري البديع:

ur uriwY amm ujdid allid asusen isk’la
nujja asguttinw ar lmnazil ayt usmmid

(محاولة في الترجمة)

لَمْ أَلِدْ مِثْلَ الطَّيْرِ حَتَّى تَسَاقَطَتْ أَوْرَاق الشَّجَرْ
تَرَكْتُ رَخْمِي إِلَى أَنْ جَاءَتْ المَوَاسِمُ البَارِدَة

الرخم: (أي احتضان البيض)

وأسباب نزوله تتمثّل في كون أبيه قد نظم بيتا يسخر فيه من وضعيته العائلية، إذ شبّهه بالنّسر الذي يصبر على الجوع في سبيل إطعام صغاره، ذلك أن أجواو لم يلد هو أيضا حتى بلغ به العمر أرذله، وأنجب إناث فقط، فكان لزاما
أن يواصل العمل دون كلل لانعدام ابن ذكر يعينه على متاعب الحياة:

Ur tussi xf iyyidr ar dγ ǧ ittawy i y-frax
A y-nna d ijjmε i cfas-ntid iqqim diks laz

(محاولة في الترجمة)

ومعناه أنه لم تشتدّ على النسر حتى غدى أبا يطعم فراخه في العشّ، فكل ما يجمعه من طعام يأتي به إليهم ويبقى هو بدون طعام ويصبر على الجوع.

 

غير أن القليل من يعرف أن هذا البيت لأجواو، إذ كثيرا ما ينسب لغيره. وهذا نموذج بسيط لمجموعة من الأبيات الشعرية الخالدة التي أبدعها هذا الهرم ومع ذلك نسبت لغيره،هذا الشاعر المميّز الذي رحل كغيره في صمت والذي أبدع في فن “أفرادي”حتى اعتُبر ملكه بدون منازع، وذلك بالرغم من أنه عاصر شعراء كبار سواء من الجوالين أمثال زايد لوسيور ومولاي مبارك وعسو إقلي…أو من المستقرين من قبيل أمولاي “شاعر أيت مرزوك” وحدو بخو “شاعر أيت حنيني” وموحى أكوراي”شاعر أي سليمان”…

عُرف “أجواو” -هذا الهرم المنسي-بين شعراء الأعالي بشخصيته المرحة، إذ لم تكن الابتسامة تفارق وجهه، إلى جانب سخريته من الكل بدءا من نفسه، إذ كلما سأله أحد عن السبب الكامن وراء عدم قدرته على الركوع أو الانحناء في رقصة أحيدوس (إذ كان الوحيد الذي لا ينحني في فرقة أحيدوس (ن) أيت عمر سنوات السبعينات والثمانينات) إلاّ وأجاب بأن الأمر جد طبيعي مشبّها نفسه بشجرة أرزٍ نمت بعيدا عن الغابة.

من أهم “الأبيات الشعرية المنفردة(إفرّادييْن)” التي عُرف بها أجواو نجد:

 

(1)
Ar tt’ttγ iliwy ikkr baba yawγ I w-flus
Awal ur siw-lγ iwlla da I y-mrrt ca

(2)
γriγ awn a ma-yd ittεbadn lasmam izill
Ad i-sikk rbbi ttγictt s agnsu n tilggitt

(3)
S lxadr n rbbi d wass nna g itutm ayrri
Adac ikks adar zi lḥdid I rarc I w-γyul

(4)
Ira bu lmrd ad bxxrn iǧr diks atffas
Ur yuciy d rriḥt ar dɣi g as inwa u-slix

(5)
nniɣac Xzitt n tmttut mi tggudi-d alfamila
Illa ddabḥ yili lbulɛ tagr mays aḥyyan

(6)
mraɣ tgi lixra am rray n ttlfaza att nanny kull
a c annayɣ ay-adɣar u-mazir-inw arsmi

(7)
Gg’dɣ iyfiɣr alli dusiɣ agatu uri y-qqis
ur tuminɣ allid ɣifs tadautt amm tin lmal

(8)
tadutt n tbrbact dmmɛɣ adittisfu wasif
iɣmattid rbbi mɣar ttizza ca xf islli

(9)
inɣa laz yan uḥyud iddud ɣr ayt isndal
inna y-asn cataɣ ca amidayakn imttin

(10)
unna dirban aḥyud g tigg’rda ns ayttaɣ
mc t-isirs ur iɛdil ibubbat inɣat iɣir

(11)
tnnac awd lmut riɣ unna g-ufiɣ tawuri
uma mc djmɛɣ iḥyad n tudert aḥḥ n isndal

(12)
Ur uriwɣ amm ujdid allid asusen iskla
Nujja asguttinw ar lmnazil ayt usmmid

(13)
ataddart a-ta zriɣ lbab ikkamt ibxsi
ur y-ad am ɛqqilɣ iddɣ tidufuɣ smmrram

(14)
nga amm yan udɣar nnag ittuzra w-anu
aman naqsn diks ayt yigm sull ɛqqllas

رغم كلّ هذا، فأشعار (حدّو أجواو) بقيت فريسةً بيد العنعنة، والسبب الأساسي أنّها لم تدوّن، وهذا حال أعمال شعراء آخرين، من قبيل “أمولاي” و”عسّو إقلي”و”حدّو بخُّو”… فإذا استثنينا محاولة الباحث (أزضوض) الذي قام بجمع أعمال الشاعر”أكوراي” وإخراجها إلى حيّز الوجود ( تجدر الإشارة إلى أن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية نشر الجزء الأول من الأعمال الكاملة “لأكوراي” هذا العام) يبقى هذا المجال فقيرا جدا من ناحية التحقيق، بل إن هذه المحاولة نفسها جد متواضعة، لكونها ركّزت فقط على التدوين ولم تذيّل أعمال الشاعر بشروحات أو تعليقات بل اكتفت بنقر القريض بالحرف الأمازيغي ونظيره اللاتيني.
من هنا إذا نستشفّ بأن الأمر يتطلّب نهضة شاملة بهذا النمط الشعري، أو لنقل بأننا بحاجة إلى عصر تدوين يمكّن “أفرّادي” من حياة مضاعفة تمنحه قدرة على التحيين المستمرّ ومن ثمّ القابلية للدراسة الأدبية واللسانية والأسلوبية، وكذا القدرة على التصنيف وربط هذه الأبيات الشعرية بمبدعيها الحقيقيين.