محمد أكوناض:
منذ أن رفع الحصار أو كاد على اللغة والثقافة الأمازيغية، شرعت أعمال أدبية أبدعت بهذه اللغة تشق طريقها معلنة عن نفسها في الساحة الثقافية المغربية، معبرة عن هذا الوجه الذي مازال شبه مجهول لدى البعض في أدبنا وثقافتنا المغربية الأصيلة.
اتخذ الإعلان عن النفس هذه المرة طريق الكتابة. فإذا كان مسموحا منذ الأربعينيات من القرن الماضي -على وجه التقريب- أن كانت تنشر، وتذاع،أوتتداول بين الناس أشرطة غنائية أمازيغية حافظت إلى حد ما على جزء من تراثنا الثقافي،فإن الانتقال من الإنتاج الشفوي إلى الإنتاج المكتوب، إنما بدأ منذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي.
وخلافا لما تعتقده العامة من الناس، فالكتابة ليست شيئا جديدا على الثقافة الأمازيغية، وبصرف النظر عن الكتابة لدى الأمازيغ في العصور ما قبل إسلامية، فلقد كتبت عدة نصوص، ووضعت مؤلفات بالأمازيغية في ظل الإسلام، منذ القرن الثالث الهجري إلى يومنا هذا، إلا أن أغلبيتها كانت نصوصا دينية، الهدف منها إيصال الرسالة الدينية والمذهبية إلى الأتباع، هذه النصوص كانت، و لا تزال متداولة عند العامة والخاصة ممن يتقنون اللغة الأمازيغية.
في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، في بلدنا المغرب، طرأ تحول في مسار هذه الكتابة، فلم يعد الهدف منها مقتصرا على تبليغ الرسالة الدينية والمذهبية، وإنما أضحت الغاية الأولى إعادة الاعتبار للغة الأمازيغية نفسها،فلقد تمت إعادة التفكير في طريقة كتابة الأمازيغية بالحرفين:العربي،واللاتيني،وهما الحرفان اللذان كتبت بهما كثير من النصوص منذ قديم، أو منذ الفترة الاستعمارية،وهكذا ظهرت طريقة (أراتن) التي ابتكرتها جمعية البحث والتبادل الثقافي في المغرب بالنسبة للحرف الأول، وسادت طريقة (مولود معمري) في الجزائر بالنسبة للحرف الثاني، كما ظهرت العناية بالمعجم الأمازيغي العام،فلقد ساد الاقتناع لدى رواد الكتابة بالأمازيغية بأن المنطوقات المحلية تنتمي للغة واحدة ، وأن مايربط بينها أكثر مما يفرق،وهكذا بدأت تنفتح المنطوقات الأمازيغية على بعضها خلال النصوص المكتوبة بالخصوص، بعد أن كانت شبه جزر مستقلة، وظهرت معاجم ذات لغتين كانت الغاية منها جمع متن اللغة الأمازيغية و توحيدها مثل معجم الأستاذ محمد شفيق (المعجم العربي الأمازيغي ) في ثلاثة أجزاء كبرى،وبعد ذلك عند ما تأسس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية،شرع في تقعيد اللغة ومعيرتها، وفي نفس الفترة أنتجت نصوص أدبية حديثة سواء في أجناسها أو في اللغة التي تبدع بها، أو في الغاية التي تهدف إليها، كانت في الأول نصوصا نضالية أنتجها كتاب يحملون وعيا بالهوية الأمازيغية ويطالبون بإنصافها. لم يرحب بهذه النصوص، ولم ينظر إليها على أنها تطور طبيعي للغة مغاربية أصيلة هي ملك للجميع،بل ووجهت بغير قليل من العداء والتجريم، خاصة ممن نصبوا أنفسهم حماة للهوية والثقافة المغربية الذين اختزلوا هذين العنصرين في إطار الثقافة العربية الإسلامية، وهكذا وبكل استخفاف،وبدون استحضار لحقائق التاريخ حكموا على لغة وثقافة ظلت صامدة آلاف السنين،وشكلت بعمق وجدان المغاربيين ونظرتهم للوجود،بأن تكون نشازا في الثقافة المغربية،وأحيانا مؤامرة استعمارية ،أو صهيونية، أو غير ذلك من شتى النعوت السلبية و التخوينية المعروفة. إلا أن ذلك لم يفت من عضد الكتاب المناضلين الذين تشبثوا بمطالبهم، وقارعوا الخصوم بالحجج المفحمة إلى أن تحققت مجموعة من المكاسب الثقافية سمحت لهذا الأدب أن يبدأ في الانعتاق من شرنقة الشفوية والتهميش،ويحظى ببعض الاعتراف من لدن المسؤولين و المثقفين الديمقراطيين على السواء.
من خلال الفترتين: فترة الحجاج والمناضلة ،ثم مرحلة الاعتراف الرسمي، خطا الأدب الأمازيغي المكتوب خطوات مهمة جديرة بالدراسة والتقييم من أجل التعرف على مكامن القوة والضعف في مسارها نحو تأسيس فعلي لأدب أمازيغي مكتوب تتوفر فيه شروط الكتابة الحقيقية .
يمكن أن نميز في الحصيلة المكتوبة للأدب الأمازيغي نمطين من الكتابة:
– الكتابة التدوينية: ونعني بها تدوين الأشكال الأدبية الشفوية القديمة ونقلها إلى مجال الكتابة،
فبصرف النظر عما قام به المستمزغون،لاسيما الفرنسيين منهم الذين دونوا الكثير من الآداب الشفوية التي وجدوها أمامهم عندما دخلوا إلى المغرب، قام أفراد ذوو غيرة على هذا الرصيد من أن تطاله يد الضياع فدون كل منهم جزءا من هذا التراث. وأعتقد أن كتاب (أمانار)الذي جمعت فيه مجموعة من عيون الشعر الأمازيغي المغنى الذي وضعه المرحوم أحمد امزال في نهاية الستينيات من القرن الماضي يمثل بداية لهذا الورش الضخم الذي ما زال متواصلا إلى اليوم،وساهم فيه الكثيرون ولا زالوا، ولقد قامت مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بدور جليل في هذا المشروع،
وقد تناول التدوين أجناسا شفوية متعددة كالشعر،والحكاية،والمثل،والألغاز…
– الكتابة الإبداعية: ونعني بها تلك الأشكال الأدبية التي أنتجت أصلا وهي مكتوبة،وهي موجهة للقراء،ولهذا كان جمهور متلقيها محدودا في الأول، فقد جرت العادة عند أغلبية الناس أن تتلقى الأمازيغية شفويا فقط، زيادة على أن الحرفين المتخذين لكتابتها،وهما الحرف العربي ، واللاتيني رغم محاولة تطويعهما لكتابة الأمازيغية بقيا قاصرين عن أداء كل الأصوات في الأمازيغية،ولم يتغلب عن هذا الإشكال إلا بعد ترسيم حرف تيفيناغ الذي استوعب الهجائية الأمازيغية ،ولئن كان هذا الحرف سهلا ويسيرا وملائما لكتابة الأمازيغية، فإنه يحتاج إلى بضع سنوات حتى تألفه العين.
وإذا كانت أغلب الإنتاجات الأدبية المكتوبة بالأمازيغية خاصة منها التي ظهرت قبل إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية مكتوبة إما بالحرف العربي، أو بالحرف اللاتيني،فإن ما كتب بحرف تيفيناغ إلى اليوم ما زال متواضعا،وأغلبه يتمحور حول أدب الطفل.
من ناحية أخرى، لم تبق الكتابة الإبداعية الأمازيغية حبيسة الأجناس الأدبية التقليدية،وإنما انفتحت على الأجناس الحديثة كالمقالة بأشكالها المتعددة،والقصة،والرواية ،والمسرحية،والكتاب الفكري في السياسة، والفلسفة، والقانون، والترجمة.
ولقد استعادت الكتابة في المجال الديني زخمها على يد الأستاذ الحسين جهادي الذي ألف في هذا المجال أربعة كتب:السيرة النبوية-ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الأمازيغية- تجريد أحاديث البخاري… في لغة تحرى الكاتب أن تكون فصيحة، مستجيبة للمعجم الأمازيغي و للقواعد الإملائية المعمول بها حاليا.
يتعايش الأدب الشفوي والأدب المكتوب،ويتبادلان التأثير فيما بينهما، فبينما يعتبر الأول مرجعا أصيلا و ملهما للثاني، فإن هذا الأخير يفتح أمام الأول مجالات جديدة من حيث المواضيع الجديدة، واللغة المستحدثة، والصور الفنية المبتكرة.وهما في مجالات أخرى يلتحمان ويتضافران خاصة في كتابة السيناريو،وفي المسرح،والقصة القصيرة حيث نجد ان نموذج الحكاية الشفوية مازال يتحكم في بعض الكتاب أحيانا بوعي وحينا بدون وعي.
نخلص إلى أن الأدب الأمازيغي المكتوب طفق يرأب الصدع الذي صنعته عهود التهميش والتنكر الذي طال الأمازيغية وآدابها على يد أبنائها،ويفتح أمامها آفاقا رحبة.